وكأن سوطاً اخترق جسدي الضئيل حتى قاع عظامي ، أتنفس بقوة
في شهيق مسموع حيث رئتاي عادتا تتنفسان بشكل طبيعي ، كنت أرتجف .. لكنني لم
أقوى على فتح عينيّ .
أقاوم رغبة ضارية في الصراخ
لشدّة الألم ما لبثت أن تبددت ليحل محلها شعور عميق بالخدر في أطرافي وأنا
أسمع صوت أختي يهمس من بعيد: مبروك .. أنجبت طفلة رائعة ، أسألها بصوت واهن
: أهي كاملة ؟ ، فتجيبني : كاملة وجميلة كالقمر .. أطلب ابنتي وأنا ما زلت
غير قادرة على أن أفتح عينيّ .. تحضر الممرضة كائناً رقيقاً أسمع صوت
أنفاسه ويلمس بوجهه وجنتي ، تهب رائحتها المألوفة العميقة فأشتعل بذلك
الإحساس الكاوي ، واستسلم للذة خارقة أفسحت مساحة لكل حواسي ، كلحظة خلود
صغيرة ، ثم يتلاشى كل شيء وأستسلم لنوم عميق تحت تأثير المخدر . في اليوم
التالي أستيقظ وكأني أعرفها "نايا" الطفلة التي لم يتجاوز عمرها أربعا
وعشرين ساعة نظرت إلي وكأنها تعرفني منذ زمن طويل ، وأحسستها تود أن تذكرني
بأشياء مشتركة طالما قمنا بها معاً ، ثم بكت بذلك الصوت الإنساني .. وسمعت
داخل حنجرتي بكاءً مماثلاً لكنني ظللت صامتة .
تكبر نايا
وأكبر معها .. ويوماً بعد آخر أكتشف أحاسيس جديدة ما اختبرتها من قبل ..
وهي تحتل روحي بقعة بعد أخرى .. وكلما استولت على رقعة جديدة من بقاع
أعماقي كنت أتساءل: هل ما زال لدي ما أمنحه لطفل آخر ؟
تلك الطفلة الرقيقة التي خرجت من جسدي تومض عيناها مثل آلاف المرايا
كلما نظرت في وجهي .. تلك الطفلة بمكانتها الخارقة التي تتجاوز فهمي
المنطقي للأشياء منحتني شعوراً آخر بالطفولة .. وكما كانت في رحمي يوماً
زرعتني داخل رحمها بفطرة نتقنها نحن النساء .. الطفلة الصغيرة تكبر وتلتصق
بي يوماً بعد آخر رغم الرياح التي عبثت بحياتنا .. وأنا يغمرني الامتنان
الكبير لها .. فأنا معها أكتشف الأشياء دوماً .. طعم الألوان المتدفقة ..
حفيف اشراقة شمس الصباح .. رائحة الدفء .. ملمس الأصوات .. وجودها الكثيف
الذي يجعلني أؤمن بأني موجودة .. وأني سعيدة بسقوطي اللامتناهي في مداها
الكوني الشاسع .. حيث لا أنطفئ.
تعلمون .. كنت سأدهش لو لم يكن
للأم تلك المكانة .. فهي بعد أن تشكل عالمها في المراهقة تبدأ بتشكيل آخر
في الزواج ، وما أن تنتهي من تشكيله حتى تبدأ بآخر لحظة تضع أطفالها ثم
تبدأ بآخر عندما يلقنونها كيفية البكاء لحظة ضعفهم ومرضهم ، ومعنى الفرح
لحظة نجاحهم وسعادتهم ، ومعنى الألم لحظة يجحدون .. لا تنتهي المرأة من
تشكيل عوالم للآخرين ناسية دائمة أنها عالم بحد ذاته ..ولأنها بالفطرة
أيضاً اعتادت أن تكون دوماً أنثى المنح.
أهدي هذا المقال .. إلى أمي التي احتملتني بأمزجتي الرهيبة وأنا أتحول من طفلة إلى امرأة
وإلى نايا طفلتي التي علمتني أبجدية حياة جديدة ما اختبرتها قبلاً ولأنها علمتني كيف أحب
وإلى كل أم في هذا العالم