.فهد إبراهيم الشثري
في مقال سابق بعنوان (التعليم نفط المرحلة القادمة)، تحدثت عن أهمية التنمية البشرية؛ وخصوصاً التعليم لأنه سيكون بمثابة النفط الذي سيغذي النمو الاقتصادي في المستقبل. وقد طالبت القارئة ريم أسعد بطرح إجابات عن التساؤلات التي أثرتها في المقال السابق وطرحت بدورها بعض المقترحات المتعلقة بزيادة كفاءة التعليم بالتركيز على قطاعات مهنية وغير معهودة لزيادة التوظف، مشيرة إلى أنه لا فائدة من الاستثمارات الأجنبية إذا كانت لا تؤدي إلى زيادة التوظف.
وأتفق مع القارئة وعدد من القراء الذين علقوا على الموضوع بأن الهدف من الاستثمارات الأجنبية يجب أن يكون دائماً زيادة التوظف للمواطن، وليس الهدف زيادة أرقام الاستثمارات الأجنبية بغض النظر عن آثارها الإيجابية أو السلبية على الاقتصاد. كما أتفق على ما ذهبت إليه من أهمية التركيز على نشاطات اقتصادية غير مسبوقة كالأعمال الحرفية التي تسهم في توظيف عدد كبير من المواطنين مما يسهم في التخفيف من البطالة. لكن يجب أيضاً قبل القفز إلى هذه الحلول، أن نطرح التساؤل الأهم وهو: هل التعليم يسهم في زيادة التوظف في القطاع الخاص؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فلماذا؟
هذا التساؤل قادني إلى نقاش مع زميل، وهو باحث في إحدى شركات الإلكترونيات في الولايات المتحدة المتخصصة في إنتاج تقنيات الاتصالات وبيعها إلى شركات اتصالات عالمية مثل نوكيا، حول توجه المملكة إلى زيادة التركيز على البحث العلمي من خلال إنشاء صروح عالمية جديدة للبحث العلمي، كجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وتركيز الجامعات الأخرى كجامعة الملك سعود على البحث العلمي خلال المرحلة المقبلة. وكان التساؤل الذي يطرحه دائماً مماثلا للتساؤل نفسه الذي طرحته أعلاه، ولكن فيما يتعلق بالبحث العلمي، وهو كيف يمكن أن يستفيد المواطن من البحث العلمي من خلال زيادة فرص التوظف له، وزيادة متوسط دخله؟ بمعنى آخر كيف سيمكن توظيف نتاج البحث العلمي محلياً بدلاً من تصديره للخارج؟
في الدول المتقدمة، يسهم التعليم والبحث العلمي بشكل كبير في التنمية البشرية ومن ثم في زيادة فرص المواطنين للحصول على وظائف. طبعاً هناك عناصر أساسية لنجاح هذا المشروع (مشروع التنمية البشرية)؛ ودون تكامل هذه العناصر، لن يكون هناك فرصة لنجاح حقيقي له. أول هذه العناصر هو كفاءة التعليم سواءً التعليم العام أو التعليم الجامعي، وثانياً تركيز البحث العلمي على الحاجات الحقيقية للمجتمع، وثالثاً وجود سياسات حكومية تدعم كفاءة التعليم والبحث العلمي، ورابعاً ـــ وهو الأهم ـــ وجود قنوات يتم من خلالها تسويق نتاج هذا التعليم والبحث العلمي إلى عجلة الاقتصاد الحقيقي لتسهم في زيادة التوظف، وخامساً وجود قطاع خاص قادر على استيعاب منتجات هذا التعليم ومنتجات البحث العلمي، وأخيراً توافر التمويل اللازم لتمويل عملية التنمية البشرية.
والمشكلة الرئيسة التي يواجهها اقتصادنا واقتصادات دول مجلس التعاون الأخرى، هي أن القطاع الخاص هو الحلقة الأضعف في الاقتصاد. فهو اقتصاد معتمد على دعم الحكومة بشكل كبير، وعلى الاستفادة من العمالة الرخيصة، وقد أسهمت السياسات الحكومية للأسف في تعميق هذا الضعف، حيث أسهم القطاع الخاص بنسبة 57 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2009م، ولكن هذه المساهمة ظلت مرهونة بتوافر عنصرين مهمين: إنفاق حكومي مرتفع، وعمالة أجنبية رخيصة، وهو ما جعل دوره في زيادة التوظف بين المواطنين ضعيف جداً، حيث لا تتجاوز نسبة العاملين من المواطنين في القطاع الخاص 13 في المائة، بينما تمثل النسبة المتبقية العمالة الأجنبية المستوردة والمنخفضة التعليم (نسبة الأمية بين العاملين الأجانب تتجاوز 60 في المائة).
إذاً في ظل الاستثمارات الكبيرة التي تستثمرها الحكومة في التنمية البشرية، سيكون هناك تساؤلات حول جدوى هذه الاستثمارات إن لم يعززها قطاع خاص قادر على استيعاب منتجات هذه الاستثمارات. على سبيل المثال، يلعب القطاع الخاص في كل الدول المتقدمة دوراً كبيراً في توظيف المواطنين وخريجي الجامعات، كما أنه يمثل الممول والموظف لنشاطات البحث العلمي والمستثمر الرئيس لنتاج هذا البحث. كما أن هناك قنوات ـــ حكومية أو غير حكومية ـــ تسهم في مقابلة كل من احتياجات القطاع الخاص مع نشاطات التعليم والبحث العلمي في الجامعات، مما يشكل تناغماً مستمراً ونمواً مطرداً للتنمية البشرية في هذه الدول.
لا أعتقد أن القطاع الخاص بشكله الحالي سيكون قادراً على استثمار نتاج البحث العلمي أو سيوظف نتاج التعليم العالي فهو اقتصاد ذو رؤية فردية قصيرة المدى تركز على الربح على المدى القصير دون اهتمام باستدامة ذلك على المدى الطويل. ما نحتاج إليه فعلاً هو مؤسسات قطاع خاص كبرى قادرة على الالتزام بالتنمية المستدامة والمساهمة فيها، وقادرة على تعزيز القيمة المضافة للاقتصاد من خلال استثمار نتاج البحث العلمي وتوظيف المواطن وتعزيز إمكاناته من خلال الاستثمار فيه على المدى الطويل. هذه المؤسسات الكبرى، كـ ''أرامكو وسابك وشركة الكهرباء والمياه وشركات الاتصالات''، هي الشركات التي ستكون قادرة على التفاعل مع (مشروع التنمية البشرية) وبالتالي تعزيز نجاحاته