باحث في الشؤون الاقتصادية
اتفق تعريف التضخم على انه ظاهرة ناتجة عن الارتفاع المستمر في المستوى العام للاسعار خلال فترة زمنية محددة، وهو من شأنه ارباك قوى التوازن بمبادئ الاقتصاد بين العرض والطلب، فثمة اشارة الى ارتفاع الطلب اكبر من العرض، مما يعني ان تيار الانفاق اكبر من تيار الانتاج
وبالتالي يكون هناك فائض في الطلب اذا لم يكن عرض يقابله، وبالتالي الفائض في الطلب يترجم على زيادة في الاسعار وهذه الزيادة التي تسبب التضخم.
لكن ان ما حدث خلال الفترة الواقعية، وهو ما يلاحظه الفرد، ان ارتفاع اسعار السلع ادى بطبيعة الحال الى زيادة تكاليف اسعار السلعة على المستهلك بحد ذاته اعلى مما كانت عليه التكلفة من قبل، لكن ثمة مشكلة جذرية وهي ان ارتفاع الاسعار يعني انخفاض القيمة الحقيقية للعملة وهو ينعكس في زيادة الطلب على النقود من قبل الافراد.
كما نجد ان ارتفاع الاسعار (التضخم) قد يرجع الى الارتفاع القياسي في اسعار النفط ومنها الزيادة في الايرادات، خصوصا في منطقة الخليج مما ترتب عليه اثر في زيادة الانفاق الحكومي والمتمثل في مشاريع البنية التحتية الى جانب زيادة الطلب على العقارات، مما ادى الى ارتفاع اسعار مواد البناء والانشاءات، وكذلك ارتفاع اسعار العقارات بشكل عام والايجارات بوجه خاص، كما نجد ان التضخم قد يرجع الى ارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية الناجم عن النمو السكاني السريع،
فضلا عن ذلك ارتفاع اسعار المحروقات وزيادة قيمة الخدمات الحكومية مثل الرسوم الجمركية ورسوم الرخص التجارية ورسوم اخرى التي ساعدت على ارتفاع الاسعار، ان المشاهد للواقع على الساحة العامة يجد ان الارتفاع المتوالي للاسعار في الاقتصاد يستدعي وضع آلية في موازنة السوق.
من هذا المنطلق نجد ان تبني ديانة الاسلام الحنيف بمكافحة التضخم من خلال الادوات الاقتصادية المعمول بها لكن بطريقة تحفظ التوازن في ظل حرية الاقتصاد وحفظ حقوق الافراد ومكافحة الفساد والفوضى، حيث توجد عدة ادوات نأخذ منها العمل على الحد من ارتفاع الاسعار
ويعرف لنا هذا المطلب في اربعة محاور على النحو التالي:
المحور الاول: زيادة النفقات
تتثمل هذه الظاهرة بمفهوم الكلفة، والتي تشمل المواد الاولية، العمل، الارض، ورأسمال فهذه المواد لها علاقة بزيادة النفقات وبالتالي زيادة قيم السلع وارتفاع الاسعار فثمة عوامل مؤثرة على رفع الكلفة والاسعار تنحصر حسب التالي:
1 ــ ارتفاع الضرائب والرسوم: حيث ان الملاحظ ان الرسوم والرخص الحكومي قد ارتفعت في الاوانة الاخيرة، مما كان لها الاثر في ارتفاع الاسعار، وفي هذه الظاهرة يرى ابن خلدون ثم تزيد المكوس (الضرائب) الجمارك ــ الغلاء»
ويضرب المثل في ذلك ان الضرائب والمغارم، والفارائض تزيد في المدن عنها في القرى هذه مدعى الى ارتفاع الاسعار، كما يضع تصوراً للسلع المستوردة، من حيث فرض الضرائب او الجمارك، والرسوم يترتب عليه ارتفاع الاسعار، وبالتالي حدوث التضخم في البلد.
2 ــ ارتفاع تكاليف النقل: يصور لنا الفقهاء في هذا الجانب في نقل السلعة، حيث يرون كلما بعدت مسافة السلعة المستوردة وما قد تحمل في طياته من مشقة ومخاطر لها اثر في ارتفاع اسعارها بخلاف السلعة التي تكون قريبة لاستيرادها ويقف ابن خلدون ليعلل الاثر الذي يتركه نقل مثل هذا النوع من السلع بارتفاع التكاليف ونقص عرض السلع وبالتالي ارتفاع الاسعار ومن ثم حدوث التضخم، كما ان الماوري ذكر ايضا ما ينطبق على الاراضي الزراعية لقربها او بعدها اثر على الاسعار من حيث تكلفة النقل وما شابهه من تكاليف.
3 ــ الارباح المستقاة من الوساطة: في حالة نجد ان هامش الربح كبير، خصوصا ما يمثله جانب العقار وبالذات في اسعار الاراضي والايجار وزيادة الطلب عليها وارتباطه بارتفاع مواد البناء.
4 ــ نفقات الدعاية والاعلان: يلعب هذا الجانب دورا كبيرا لجذب انتباه المستهلك نتيجة لما تتمتع السلعة من قوة في الدعاية باستخدام الوسائل المتعارف عليها من تلفزيون، مجلات.. الخ،
ولكن نجد انها في الحقيقة المزايا المعلنة في كينونتها غير موجودة فيها في اغلب الاحيان، وقد حرص الاسلام في هذا الجانب من خلال النهي عن الغش والبخس في السلعة،
ولذلك اوصى النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عن بيع السلعة بالحلف الكاذب،
وقال ثلاثة لا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم.. وذكر منهم المنفق السلعة بالحلف الكذب.
من جانب اخر، وصف النبي، صلى الله عليه وسلم، ان اطيب الكسب التجار الذين اذ حدثوا لم يكذبوا.. واذا اشتروا لم يذموا واذا باعوا لم يمدحوا..» صدق رسول الله الكريم (صلى الله عليه وسلم).
المحور الثاني : الندرة
يفهم في هذا ان الندرة هو ما قل وجوده، وارتبط الندرة (كسلعة) بمدى الحاجة والطلب اتجاه مما يجعله لها قيمة، وبالتالي اثر في ارتفاع السعر،
ويشير ابن خلدون في هذا المقام اثر الغلاء في حالة الندرة بقوله
«اذا كان المصر مستحرا موفور العمران كثير حاجات الترف توافرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله فيقتصر الموجود منها علىالحاجات قصورا بالغا ويكثر المستأمرون لها،
وهي قليلة في نفسها فيقع الغلاء»، اضافة الى ان الجوني اشار الى ان من اسباب تغير الاسعار «عزة الوجود والرخاء» اي قلة وجود الشيء وكثرته، كما ان ابن تيمية، رحمه الله، بين ارتفاع السعر وقلة الشيء بقوله «فاذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر لقلة الشيء.. فهذا الى الله».
المحور الثالث : الاحتكار
ان هذا الجانب يصور ان الاحتكار هو ناتج لقلة السلعة او لحبسها، مما يتيح فرصة بفرض سعر اعلى من خلال نقص المعروض من السلعة، مما يؤدي الى اختلال توازن السوق وفي هذه الحالة نجد ان الاسعار ترتفع لمصلحة قوى الاحتكار، وفي اغلب الاحيان يرى ان الاحتكار قد يكون بالسلعة الضرورية التي تؤثر على المستهلكين نظير حاجاتهم الاساسية بها، مما يترتب عليه اثار اقتصادية في نقص عرضها وبالتالي ارتفاع سعره. وهذا في حد ذاته ضرر بالناس، فهو منهي عنه.
فكان رأي الامام مالك، رحمه الله، في الاحتكار يشمل عدة سلع،
كما يروي بن سحنون عن ابن القاسم ان سمعه يقول «الحكرة في كل شيء في السوق في الطعام والزيت والكتان والصوف وجميع الاشياء وكل ما اضر بالسوق، فيمنع من يحتكر شيئا من ذلك كما يمنع من احتكار الحب».
من جانب نظرة الامام ابو حنيفة، رحمه الله، من السلعة التي يتم استيرادها في نفس الاقليم يعده احتكارا بخلاف السلعة التي يتم استيراده من اقليم آخر وفي الوقت نفسه يعده انتاجا لمالك فانه لا يعده احتكارا لانه في هذه الحالة تشجيع لعرض السلع اكثر وفي كلتا الحالتين ينطبق في هذه الحالة كما يسمى، رحمة الله، الضائقة.
ومن الجدير بالذكر، ان الاحتكار له عدة نتائج التي من خلالها تكون ذات مردود غير ايجابي يمكن تلخيصها كما يلي:
إن المحتكر يفرض السعر المناسب له، مما يضر بحاجات الناس وفي هذا يتولد في الاقتصاد اهدار حرية التجارة والتحكم في السوق.
< إهدار لطاقات إنتاجية من خلال ما يعمد المحتكر لإنتاج اقل من المطلوب، مما يوجد لديها طاقات انتاجية معطلة، وذلك بقصد تحديد العرض
< نجد الابتكار والتطور قد ينعدم.
<
الاحتكار يحرم صاحبه بعدم التمتع بمزايا الاختراعات الحديثة والتقدم في ظل وجود ارتفاع الأسعار.
المحور الرابع : تدخل الدولة
نادى آدم سميث كبير الاقتصاديين في كتابه «ثروة الأمم» بحرية الاقتصاد لما فيه من تحقيق التوازن السوقي وضمان حرية الافراد، وينظر بتدخل الدولة من خلال ايجاد اللوائح والانظمة التي تحفظ الحماية والفساد من الفوضى في البلد،
وينظر الى ان تدخل الدولة المتمثل في تقديم الاعانات من شأنه ان يؤدي إلى تخفيض التكاليف، لكن تدخل الدولة في مجال التجارة يشكل عائقا داخل البلد من خلال منافسة القطاع الخاص، مما يؤدي إلى إحباط التجار بمباشرة انشطتهم الاقتصادية، مما يتيح الفرصة لفرض الاسعار المرتفعة،
وفي هذا اشارة الى ابن خلدون في هذا رأى انه في ظل تدخل الدولة يضطر الفلاحون وأصحاب التجارة الي بيع سلعهم على كساد من الاسواق بأقل الاسعار من خلال فرض الامراء وأصحاب القرار لفرض وتسويف في القرار، وهذا مدعى في نهاية الامر الى احباط للقيام بالتجارة بالانشطة، مما يكون نتاجا من قلة المزارعين والتجار ويترك اثرا في ارتفاع الأسعار،
ويأتي دور الإسلام، ليتبنى منذ زمن حرية السوق والدعوة الى التكامل بين القطاع الحكومي كمشرع للقوانين والانظمة وحماية الحقوق والافراد، ويأتي دور القطاع الخاص كمكمل في السوق من خلال الدخول في العملية الانتاجية والدعوة الى رفع الكفاءة الاقتصادية بجميع أنواعها في السوق، مما يحقق الرفاهية والمنفعة العامة مع الحفاظ على سوق يحقق توازن في مجال العرض والطلب الذي من شأنه كبح جماح ارتفاع الأسعار وفي نهاية المطاف مكافحة للتضخم.