الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا
نبي بعده، وعلى آله وصحبه وبعد:
فإنَّ الناظر في العالم الإسلامي اليوم ليجد أنَّه يعيش في اضطراب وقلق، وضلال
وانهيار، وقد نظر المصلحون في أسباب هذا الواقع المنحرف، فكان من أهم هذه
الأسباب تخلي المرأة عن وظيفتها وخروجها عن طبيعتها، والذي جعل منها أداة إفساد
وتضليل. وإن وعي المرأة بدينها، ومعرفته حق المعرفة، ومن ثم تطبيقه في واقعها
العملي؛ هو سبب كبير في انتشار الأمة من هذا الواقع المرير.
وقد كُتب الكثير عن المرأة، ومن مختلف النواحي، إلا أنَّ القلم يجب ألا يجف حتى
تعود المرأة إلى طبيعتها، وإلى ما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منها،
وهذه مساهمة منا في هذا الموضوع، وسيكون حديثنا عن (حكم مصافحة الرجل للمرأة
الأجنبية) وذلك حسب النقاط الآتية:
1/ أدلة تحريم مصافحة المرأة الأجنبية.
2/ أقوال أهل العلم في حكم مصافحة الأجنبية.
3/ شبهات وردود.
أدلة تحريم مصافحة المرأة الأجنبية:
1/ ما رواه البخاري ـ رحمه الله ـ (8/810فتح) عن عروة بن الزبير أن عائشة ـ رضي
الله عنها ـ أخبرته أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه
من المؤمنات بهذه الآية بقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك}
إلى قوله {غفور رحيم} قال عروة: قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات
قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك ـ كلاماً ـ ولا والله ما مست
يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك".
2/ ولما رواه البخاري أيضاً (13/251فتح) عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {لا يشركن بالله
شيئاً} قالت: وما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة إلا امرأة
يملكها".
3/ ما رواه أحمد (6/401) والترمذي (4/151) عن أميمة بنت رقيقة قالت: "أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نساء نبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك
بالله شيئاً ـ الآية ـ قال: فيما استطعتن وأطعتن، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا
من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنَّما
قولي لأمرأة واحدة كقولي لمائة امرأة". قال الترمذي ـ رحمه الله ـ هذا حديث حسن
صحيح اهـ. وقال ابن كثير في تفسيره (4/450) هذا إسناد صحيح اهـ.
قال الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في تفسيره (6/396) "وكونه صلى الله عليه وسلم لا
يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أنَّ الرجل لا يصافح المرأة ولا يمسّ
شيء من بدنه شيئاً من بدنها، لأنَّ أخف أنواع اللمس المصافحة، فإذا امتنع منها
صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة، دلَّ ذلك على
أنَّها لا تجوز، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم، لأنَّه هو المشرع لأمته
بأقواله وأفعاله وتقريره" اهـ.
قال العراقي ـ رحمه الله ـ في طرح التثريب (6/1751) "وإذا لم يفعل هو ذلك مع
عصمته وانتفاء الريبة في حقه فغيره أولى بذلك" اهـ.
4/ حديث معقل بن يسار ـ رضى الله عنه ـ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له" قال
المنذري في الترغيب والترهيب (3/66) "رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني
ثقات رجال الصحيح" اهـ.
5/ ما أخرجه مسلم في صحيحه (16/157منهاج) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما
النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش،
والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه" قال النووي في
شرحه على صحيح مسلم (16/156) "معنى الحديث أن ابن آدم قدر عليه نصيب من الزنا،
فمنهم من يكون زناه حقيقياً بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه
مجازاً بالنظر الحرام أو الاستمتاع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس بأن
يمس أجنبيه بيده أو يقبلها.." اهـ مختصراً.
6/ قاعدة الشرع المطهر أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا حرَّم شيئاً، حرَّم الأسباب
والطرق والوسائل المفضية إليه؛ تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من الوصول إليه. ولو
حرَّم الله أمراً، وأبيحت الوسائل الموصلة إليه؛ فكان ذلك نقضاً للتحريم، وحاشا
شريعة رب العالمين من ذلك، ولمَّا كانت فاحشة الزنا من أعظم الفواحش وأقبحها
حرمت الأسباب الموصلة إليه من: السفور ووسائله، والتبرج ووسائلة. قال الشنقيطي
ـ رحمه الله ـ في تفسيره (6/396): "إن ذلك ـ يعني مصافحة الأجنبية ـ ذريعة إلى
التلذذ بالأجنبية، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة.. فالحق الذي لا
شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها ومن أكبرها لمس الرجل شيئاً من
بدن الأجنبية والذريعة إلى الحرام يجب سدها" اهـ. بتصرف.
أقوال أهل العلم في حكم مصافحة الأجنبية:
* قال العلامة الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع (5/184) "أما حكم مس هذين
العضوين ـ الوجه والكفين ـ فلا يحل مسهما" اهـ.
* وقال الإمامي الحصكفي الحنفي في الدر المختار (6/367 حاشية) "أمَّا الأجنبية
فلا يحل مسّ وجهها وكفها وإن أمن الشهوة، لأنَّه أغلظ" اهـ.
* وقال الإمام أبوبكر ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي (7/95) "كان النبي
صلى الله عليه وسلم يصافح الرجال في البيعة باليد تأكيداً لشدة العقد بالقول
والفعل، فسأل النساء ذلك فقال لهن: "قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة" ولم
يصافحهن، لما أوعز إلينا في الشريعة من تحريم المباشرة إلا من يحل له ذلك منهن"
اهـ.
* وجاء في الآداب الشرعية لابن مفلح (2/246): "قال ابن منصور لأبي عبدالله:
تكره مصافحة النساء؟ قال أكرهه، قال اسحاق بن راهويه ـ كما قال ـ وقال محمد بن
عبدالله بن مهران: إن أبا عبدالله سئل عن الرجل يصافح المرأة قال: لا، وشدَّد
فيه جداً. قلت: فيصافحها بثوبه؟ قال: لا.. فهاتان روايتان في تحريم المصافحة
وكراهتها للنساء، والتحريم اختيار الشيخ تقي الدين، وعللَّ بأنَّ الملامسة أبلغ
من النظر" اهـ. مختصراً.
* وفي غذاء الألباب للسفاريني الحنبلي (1/253) "..وحرَّم مصافحة امرأة أجنبية
شابة.. وهذا المذهب بلا ريب وهو الصواب بلا شك" اهـ.
* وقال الشيخ محمد سلطان المعصومي في عقد الجوهر الثمين (ص189): "إنَّ مصافحة
النساء الأجنبيات لا تجوز ولا تحل سواء مع الشهوة أو لا، وسواء كانت شابة أو لا،
وذلك مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء رحمهم الله" اهـ.
شبهات وردود:
من المعاصرين من ذهب إلى القول بجواز المصافحة بين الرجال والنساء من غير
المحارم، وليس لهم في هذا القول سلف من أئمة الإسلام، إذ الكل متفق على التحريم
كما سبق. وقد استدلوا بأدلة لا تعدو إما أن تكون صحيحة غير صريحة، أو ضعيفة
مردودة أو مبنية على استنباط ضعيف، وإليك التفصيل:
الشبهة الأولى: ادعوا أنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم كان يصافح النساء من وراء حائل مستدلين بما أخرجه أحمد (6/504) أسماء بنت
يزيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع نساء المسلمين للبيعة فقالت له أسماء:
ألا تحسر لنا عن يدك يا رسول الله؟ فقال لها: إني لست أصافح النساء ولكن آخذ
عليهن" الحديث.
الرد من وجوه:
(1) أن حديث أسماء فيه شهر بن حوشب قال فيه الحافظ في التقريب (ص441): "صدوق
كثير الارسال والأوهام" وقد ضعفه يحيى بن سعيد وشعبة وأبوحاتم الرازي وابن عدي
وجماعة. انظر التهذيب (2/182).
(2) وعلى فرض صحة حديث أسماء فالحديث ليس صريحاً في أنَّه عليه السلام كان
يصافح من وراء حائل، بل قوله في الحديث: "إني لست أصافح النساء ولكن آخذ عليهن"
أي بدون مصافحة، دليل ظاهر في رد هذه الدعوى.
وقد ورد في هذا المعنى روايات كثيرة ذكرها الحافظ في الفتح (8/811)، ولكنها
مراسيل كلها لا تقوم بها الحجة، ولا سيما وقد خالفت ما هو أصح منها كالأحاديث
المتقدم ذكرها.
الشبهة الثانية: استدلوا بما أخرجه البخاري في
صحيحه (8/812) من حديث أم عطية وفيه: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقرأ علينا "أن لا يشركن بالله شيئاً" ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها
فقالت: أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها.." الحديث قالوا: في الحديث إشارة إلى
أنهن كنَّ يبايعنه بأيديهن.
الرد: أجاب الحافظ في الفتح (8/811) بقوله: "المراد بقبض اليد التأخر عن القبول"
اهـ. والإعراض عن الأحاديث الصحيحة الصريحة في عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم
للنساء، والأخذ بهذا الحديث ـ مع أنَّ المصافحة لم تذكر فيه ـ لا يستقيم أبداً.
الشبهة الثالثة: قالوا: قد روى أن عمر ـ رضى الله
عنه ـ صافح النساء في البيعة نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرد: قال الحافظ العراقي في طرح التثريب (6/1751) "وذكر بعض المفسرين أنَّه
صلى الله عليه وسلم دعى بقدح من ماء فغمس فيه يده ثم غمس فيه أيديهن وقال بعضهم:
ما صافحهن إلا بحائل، وكان على يده ثوب قطري، وقيل: كان عمر يصافحهن عنه ـ ولا
يصح شيء من ذلك لا سيما الأخير، وكيف يفعل عمر ـ رضي الله عنه ـ أمراً لا يفعله
صاحب العصمة الواجبة؟!" اهـ.
الشبهة الرابعة: استدلوا بقوله تعالى: "وإن كنتم
مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء
فتيمموا صعيداً طيباً". قالوا: فقوله تعالى: "أو لامستم النساء، يدل على جواز
مصافحة النساء.
الرد: يقال: إنَّ هذه الآية واردة في موجبات الطهارة وليس فيها دليل يتعلق بمحل
النزاع، وفي معنى (لامستم) قولان:
الأول: أنّ معنى (لامستم) هو الجماع كما جاء عن علي وابن عباس.
الثاني: أنّ معنى (لامستم) قبلة الرجل امرأته وجسها بيده، كما جاء عن ابن عمر.
وعلى القولين لا يمكن الاستدلال بالآية على جواز مصافحة الأجنبية بحال.
أما على الأول: فلأن المخالف لا يقول بحل جماع الأجنبية قطعاً، وأمَّا على
الثاني فغاية ما يستدل بالآية عليه أنَّ لمس الأجنبية ـ إن قدر وقوعه ـ فهو
موجبات الطهارة، لكن يبقى الكلام في إثم من فعل ذلك عامداً، وهو ما ثبت في
الأدلة المتقدمة، فلا تعارض أصلاً بين تحريم المصافحة وإمكان وقوع اللمس.
وختاماً: فقد وضح الحق وبه حرمت المصافحة للأجنبي والأجنبية، وعليه قامت
الدلائل والبراهين، وبه قال أئمة هذا الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علماً
يا كريم.