د. راغب السرجاني
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فمنذ أن بدأ الوحي في التنزُّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن أتمَّ الله عزَّ وجلَّ هذا الدين، وامتنَّ به على المسلمين قائلاً سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
منذ ذلك الحين وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم تمثل النموذج التطبيقي الكامل الشامل لكلِّ ما جاء في القرآن الذي بلغ الذروة في الكمال والإتقان، وبلغ الغاية في الإبداع، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبيَّن حكمها، وطريقة التعامل معها، يقول تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89].
جاءت السُّنَّة النبوية إذا تبين حكم القرآن في كل أمر، وتوضح الحلال من الحرام؛ حتى لا تترك شيئًا غامضًا يُزِيغ المسلمين عن الجادَّة، حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه العرباض بن سارية: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»[1].
وقد كان من لوازم شمول الإسلام، وكون سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المفسرة لأحكام القرآن أن كثَّف الله عزَّ وجلَّ كل الأحداث التي من الممكن أن تواجه المسلمين في أي زمان وفي أي مكان، وذلك في ثلاثٍ وعشرين سنةً فقط؛ حتى يتحقق التوجيه الإلهي الحكيم: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21].
لقد مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم في فترة رسالته بكل الظروف التي يمكن أن تواجه الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان؛ فهذه ظروف حرب وهذه ظروف سلم، وهذه أيام غنى وهذه أيام فقر، وهذه فترات قوة وهذه فترات ضعف. وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كافة أنماط البشر؛ فهذا مؤمن وذاك جاحد، وهذا هين لين سهل، وذاك فظ غليظ، وهذا صغير وذاك كبير، وهذا رجل وتلك امرأة. لقد كان هذا التنوع ضروريًّا؛ لكي يمنحنا الرسول صلى الله عليه وسلم منهجًا عمليًّا في التعامل مع البشر؛ لأننا أمة منوط بها تبليغ الإسلام للبشرية كافة في كل زمان ومكان، وتحت أية ظروف.
ولقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل الأمور التي واجهته بطريقة فذَّة، وبسُنَّة مطهرة أخرجت لنا كنوزًا هائلة من فنون التعامل، ومن آداب العلاقات، وقد برز في كل دقائق حياته العنصرُ الأخلاقيُّ، كعنصر مؤثر تمامًا على كل اختيار من اختياراته صلى الله عليه وسلم، فلا يخلو -حقيقةً- أيُّ قول أو فعل له صلى الله عليه وسلم من خلقٍ كريم، وأدب رفيع، بلغ إلى هذه الذروة، ووصل -بلا مبالغة- إلى قمة الكمال البشري، الأمر الذي نستطيع أن نفهم منه قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِمَ مَكَارَمَ الأَخْلَاقِ»[2].
وهكذا فلا يخلو موقفٌ ولا حدثٌ ولا قولٌ ولا ردُّ فعلٍ من بروزٍ واضح لهذه الأخلاق الحميدة، حتى في المواقف التي يصعب فيها تصور الأخلاق كعاملٍ مؤثرٍ، وذلك كأمور الحرب والسياسة، والتعامل مع الظالمين والفاسقين والمحاربين للمسلمين والمتربصين بهم.
لقد كان من المستحيل عند أهل السياسة والاقتصاد والحرب والقضاء أن يضبطوا تعاملاتهم في هذه المجالات بالضوابط الأخلاقية والإنسانية، ولكن جاءت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة لتنطق في كل لفتة من لفتات حياته بالالتزام بتلك الضوابط، ولا غرو، فهذا الخُلُق هو الذي وصفه الله تعالى بالعظمة، حيث قال في وصفه:﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
لقد أثبتت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الالتزام بالقواعد الإسلامية المثالية التي وردت في كتاب الله تعالى ليس ضربًا من الخيال، أو تحتاج إلى عالمٍ مثالي خالٍ من الشر والرذائل، بل هو أمر ممكن؛ لأنها قواعد واقعية إضافةً إلى كونها مثالية، قواعد يمكن تطبيقها والحياة بها كما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحيا بها، ولأنها هي أصلح القواعد لتنظيم حياة البشر، وأنها الدليل الواضح لمن أراد الهداية بصدق، كما كانت حياته صلى الله عليه وسلم ترجمة صادقة لكل أمر إلهي، وقد صَدَقَت ووُفِّقت أم المؤمنين عائشة[3] في وصف أخلاقه صلى الله عليه وسلم عندما قالت: كان خُلُقُهُ القرآن[4].
ولكنْ لأنه ليس كل مَن يرى يبصر؛ فإنَّ هذه الأخلاق العظيمة، والشمائل الجليلة لم تمنع نفرًا من البشر أن ينكروا فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكذِّبون ما علمه جميع البشر من جميل خلاله، بل ساقهم الكِبر والعناد إلى التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإساءة إليه.
وهذا النكران والجحود لفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له من سببٍ إلا الحقد أو الجهل؛ فالحاقد لا ينقصه علم ولا دراية.. إنه رأى الحق بوضوح، ولكنه آثر -طواعيةً- أن يتَّبع غيرَه، أمّا لماذا خالف وأنكر فلأسباب كثيرة: فهذا محبٌ لدنياه، وذاك مؤثرٌ لمصالحه، وهؤلاء يتَّبعون أهواءهم، وأولئك يغارون ويحسدون.
إنها طوائف منحرفة من البشر لا ينقصها دليل، ولا تحتاج إلى حجة، وفيهم قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل:14].