عنوان الكتاب:
مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنة
تأليف:
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي
ص -3- مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنة
تأليف: جلال الدين السيوطي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد الصادق الأمين وعلى آله و أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:-
فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهي مع كتاب الله العزيز أساس الدين الإسلامي ومصدره وهما معاً متلازمان تلازم شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ومن لم يؤمن بالسنة لم يؤمن بالقرآن.
ومنذ أزمان غابرة حتى يومنا هذا تتعرض السنة لهجمات الأعداء ممن ينتمون إلى الإسلام ومن غيرهم.
ومن الذين ذبوا عن السنة النبوية وكشفوا عوار أعدائها الحافظ جلال الدين السيوطى في كتابه المختصر المفيد (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) ويسر الجامعة
ص -4- الإسلامية بالمدينة المنورة أن تنشر هذا الكتاب وتوزعه بالمجان كلمة ممنوعةائر ما تطبعه دفاعا عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونصحا لمن أحب لنفسه الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
والله سبحانه الموفق والهادي إلى سواء السبيل
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد المحسن بن حمد العباد
في 1399هـ
ص -5- بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبه ثقتي، وسلام على عباده الذين اصطفى.
اعلموا- يرحمكم الله- أن من العلم كهيئة الدواء. ومن الآراء كهيئة الخلاء. لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وأن مما فاح ريحه في هذا الزمان وكان دارسا بحمد الله تعالى منذ أزمان، و هو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية- زادها الله علوا و شرفا- لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث: "ما جاءكم عنى من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلا فخذوا به وإلا فردوه" هكذا سمعت هذا الكلام بجملته منه وسمعه منه خلائق غيري، فمنهم من لا يلقي لذلك بالا. ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام ولا من أين جاء. فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه، وأنه من أعظم المهالك.
فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة، كفر وخرج عن دائرة الإسلام و حشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فرق الكفرة. روى الإمام الشافعي
ص -6- رضي الله عنه يوما حديثا وقال إنه صحيح فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟، فاضطرب وقال: "يا هذا أرأيتني نصرانيا؟ أرأيتني خارجا من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً؟ أروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به".
وأصل هذا الرأي الفاسد أن الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن وهم في ذلك مختلفو المقاصد، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلي وأن جبريل عليه السلام أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ومنهم من أقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة ولكن قال: إن الخلافة كانت حقا لعلي فلما عدل بها الصحابة عنه إلى أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين قال هؤلاء المخذولون- لعنهم الله - كفروا حيث جاروا وعدلوا بالحق عن مستحقه، وكفَّروا - لعنهم الله - عليا رضي الله عنه أيضا لعدم طلبه حقه فبنوا على ذلك رد الأحاديث كلها لأنها عندهم بزعمهم من رواية قوم كفار فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهذه آراء ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار.
وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم، و تصدى الأئمة الأربعة
ص -7- وأصحابهم في دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم للرد عليهم، وسأسوق إن شاء الله تعالى جملة من ذلك والله الموفق.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة و نقله عنه البيهقي في المدخل: قد وضع الله رسوله صلى الله عليه وسلم من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علما لدينه. بما افترض من طاعته وحرم من معصيته وأبان من فضيلته. بما قرن بين الإيمان برسوله الإيمان به فقال تبارك و تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله معه. قال الشافعي: ففرض الله على الناس اتِّباع وحيه وسنن رسوله، فقال في كتابه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، مع آي سواها ذكر فيهن الكتاب والحكمة. قال الشافعي: فذكر الله الكتاب و هو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضاه من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {يَا أَيُّهَا
ص -8- الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فقال بعض أهل العلم: أولو الأمر: أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَإِنْ تَنَازَعْتُم}: يعنى اختلفتم في شيء، يعني- والله تعالى أعلم - هم و أمراؤهم الذين أُمروا بطاعتهم، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}: يعنى- والله تعالى أعلم - إلى ما قال الله والرسول ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأعلمهم أن طاعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعتُه فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} واحتج أيضا في فرض اتباع أمره بقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وغيرها من الآيات التي دلت على اتباع أمره، ولزوم طاعته فلا يسع أحدا رد أمره لفرض الله طاعة نبيه.
قال البيهقي بعد إحكامه هذا الفصل: ولولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال صلى الله عليه وسلم في. خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم: "ألا فليـبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلّغ أوعى من سامع"، ثم أورد حديث: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثا
ص -9- فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع" وهذا الحديث متواتر كما سأبينه. قال الشافعي: فلما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته وحفظها و أدائها دل1 على أنه لا يأمر إن يؤدَّى عنه إلاَّ ما تقوم به الحجة على من أدَّى إليه، لأنه إنما يؤدَّى عنه حلال يؤتى وحرام يجتنب وحدّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا.
ثم أورد البيهقي من حديث أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه يقول: لا أدري2 ما وجدنا في كتاب الله اتبعنا" أخرجه أبو داود والحاكم، ومن حديث المقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيني و بينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرَّم الله"، قال البيهقي: وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثَه فوجد تصديقه فيما بعده، ثم أخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبي فضالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الرسالة" للإمام الشافعي "وحِفظِها وأداِئها امرءا يؤديها، والمرء واحد دل" الخ، انظر الرسالة ص55
2 في سنن أبي داود "لا ندري" والأريكة – بوزن مدينة -: السرير
ص -10- المكي: "أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلا في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعا ووجدت المغرب ثلاثا والغداة ركعتين والظهر أربعا والعصر أربعا؟ قال: لا: قال. فعن من أخذتم ذلك، ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه من كل أربعين شاة شاة و في كل كذا بعيرا كذا وفى كل كذا درهما كذا. قال: لا. قال فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال: أوجدتم في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أوجدتم فيه فطوفوا سبعا واركعوا ركعتين خلف المقام، أو وجدتم في القرآن: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام؟ أما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم.
ثم قال البيهقي: والحديث الذي روى في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح، وهو ينعكلمة ممنوعة على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن، انتهى كلام البيهقي في المدخل الصغير. وهو
ص -11- المدخل إلى دلائل النبوة، وقد ذكر المسألة في المدخل الكبير و هو المدخل إلى السنن بأبسط من هذا فقال: باب تعليم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرضِ اتباعِها، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قال الشافعي: "سمعت مَن أَرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ثم أخرج بأسانيده عن الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير أنهم قالوا: "الحكمة في هذه الآية السنة"، ثم أورد بسنده عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة مال معاهد" الحديث، ثم أورد من طريق آخر عن المقدام بن معدي كرب قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء يوم خيبر من الحمار الأهلي وغيره فقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرَّمناه، وإنما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرَّم الله".
ص -12- وقال البيهقي بإسناد صحيح أخرجه أبو داود في سننه، قلت: وأخرجه أيضا الحاكم، ثم أورد البيهقي أيضا بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدا: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" أخرجه الحاكم في المستدرك، وأورد بسنده عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنتي" أخرجه الحاكم أيضا، وأورد بسنده أيضا عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: "إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرين اثنين: كتاب الله وسنة نبيكم. أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم تعيشوا به" وأخرج بسنده عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: "الزم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم"، وأخرج بسنده عن العرباض بن سارية قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد
ص -13- حبشي كأن رأسه زبيبة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها: وعضوا عليها بالنواجذ: وإياكم و محدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم في مستدركه وأخرج بسنده عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله المتسلط بالجبروت ليذل بذلك من أعز الله ويعز من أذل الله، والمستحلّ لحرم الله والمستحلّ من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي" قلت أخرجه أيضا الطبراني والحاكم وصححه وأخرج بسنده عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل عمل شِرة1 ولكل شرة فترة2 فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، و من كانت إلى غير ذلك فقد هلك" وأخرج بسنده عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة"، قلت: أخرجه أيضا الترمذي. وأخرج بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "القائم بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد"، قلت: أخرجه أيضا الطبراني، ثم قال البيهقي في باب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النشاط والرغبة
2 أي سكون وتقليل
ص -14- بيان وجوه السنة: قال الشافعي رضي الله عنه: و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه، أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثل نص الكتاب. والثاني: ما أنزل الله فيه جملة كتاب فبين عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عاما أو خاصا، وكيف أراد أن يأتي به العباد. و الثالث: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال جعله الله له. بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال لم يسن سنة قط إلا ولهذا أصل في الكتاب كما كانت سنـته، كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن في البيوع و غيرها من الشرائع، لأن الله تعالى ذكره قال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} فما أحل وحرم فإنما بيَّن فيه عن الله كما بين في الصلاة ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فأثبتت سنـته بفرض الله تعالى ومنهم من قال: ألقى في رُوعه كل ما سن و سنـته الحكمة التي ألقيت في رُوعه عن الله تعالى. انتهى بلفظه.
ثم أخرج البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر: يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من
ص -15- رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا لأن الله تعالى كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف. وأخرج بسنده عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالقضاء و ينزل القرآن بغير ما قضى فيستقبل حكم القرآن ولا يرد قضاءه الأول. و احتج من ذهب إلى أنه لم يسن إلا بأمر الله إما بوحي ينزله عليه فيتلى على الناس، أو برسالة ثابتة عن الله أن افعل كذا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان في قصة الزاني: "لأقضين بينكم بكتاب الله" ثم قضى بالجلد والتغريب وليس التغريب في القرآن، وبما أخرجه الشيخان عن يعلى بن أمية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة1 فجاءه رجل عليه جبة متضمِّخ2 بطيب وقد أحرم بعمرة فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت فجاءه الوحي فأنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه}ِ ثم سرى3 عنه فقال: "أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك".
ثم أخرج البيهقي بسنده عن طاوس "أن عنده كتابا من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو موضع قريب من مكة وهو في الحل وميقات الإحرام
2 التضمخ: التلطخ بالطيب وغيره والإكثار منه
3 أي زال وكشف
ص -16- العقول نزل به الوحي وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقة وعقول1 فإنما نزل به الوحي". وأخرج بسنده عن حسان ابن عطية قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها كما يعلمه القرآن" أخرجه الدارمي، وأخرج بسنده من طريق القاسم ابن مخيمرة عن طلحة بن فضيلة قال: "قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عام سَنَة2 سعّر لنا يا رسول الله، قال: "لا يسألني الله عن سُنَّة أحدثتها فيكم لم يأمرني بها، ولكن اسألوا الله من فضله" وأخرج بسنده عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا و قد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وأن الروح الأمين قد نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" قال الشافعي: وليس تعدو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وضعت باختلاف من حكيت عنه من أهل العلم و كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل في اتباعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع عقل: وهو الدية وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول أي شدها في عقلها ليسلمها إليهم ويقبضوها منه، فسميت الدية عقلا بالمصدر.
2 السنة: الجدب يقال أخذتهم السنة إذا أجدبوا وأقحطوا
ص -17- طاعته، وفى العنود1 عن اتباعه معصيته التي لم يعذر بها خلقا ولم يجعل له من اتباع سنن نبيه مخرجا.
ثم قال البيهقي: باب ما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والبيان أن طاعتَه طاعتُه قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} و قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} قال الشافعي رضي الله عنه:.فأعلمهم أن بيعةَ رسوله بيعتُه وأن طاعتَه طاعتُه فقال: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }، قال الشافعي: "(فيما بلغنا و الله تعالى أعلم)2 نزلت هذه الآية في رجل خاصم الزبير في أرض فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بها للزبير وهذا القضاء سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حكم منصوص في القرآن. أخرج الشيخان عن عبد الله بن الزبير: "أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة3 التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ :وفي العـتو وما هنا موافق لما في الرسالة
2 الزيادة من الرسالة
3 الشراج مسيل الماء من الحزن إلى السهل واحده شرج.والحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء من الأرض الصلبة الغليظة،والجمع حرات وبالمدينة حرتان :حرة واقم وحرة ليلى وقيل هي أكثر من حرتين والله أعلم.
ص -18- سرِّح الماء يمرّ فأبى عليه الزبير فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فـتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"، فقال الزبير: والله إني لأحسب أن هذه الآية نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية". وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله"، و أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "جاءت ملائكة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا و جعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا: أوِّلوها له: يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله ومن عصى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله،
ص -19- ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس"، وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله و من يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" . قال الشافعي رحمه الله: وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} إلى قوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} , أخرج البيهقي عن سفيان في قوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } قال يطبع الله على قلوبهم: قال الشافعي: وأمرهم بأخذ ما أتاهم والانتهاء عما نهاهم عنه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .أخرج الشيخان عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات و المتفلجات1 للحُسن المغيِّرات خلقَ الله تعالى فبلغ ذلك امرأة يقال لها: أم يعقوب فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك قلت كيت وكيت، فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته قال: إن كنت قرأتيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الواشمات:جمع واشمة من الوشم .والمستوشمات :جمع مستوشمة وهي التي تسأل وتطلب ذلك، والمتنمصات جمع متنمصة من التنمص وهو نتف الشعر من الوجه ،والمتفلجات : جمع متفلجة وهي التي تفعل الفرج بين أسنانها للحسن
ص -20- فقد وجدتيه أما قرأتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى قال: فإنه نهى عنه، قال الشافعي: وأبان أنه يهدي إلى صراط مستقيم فقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ ه} قال الشافعي: وكان فرضه على من عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى يوم القيامة واحدا في أن على كلٍّ طاعتُه، ثم أخرج البيهقي بسنده عن ميمون بن مهران في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قالوا: الرد إلى الله: إلى كتابه، و الرد إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا قبض: إلى سنـته. ثم أورد البيهقي من حديث أبي داود عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدا متكئا على أريكة يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" قال الشافعي وفي هذا تـثبيت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و إعلامهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا فيه نصا في كتاب الله. ثم أورد البيهقي حديث أبى داود أيضا عن العرباض بن سارية قال: "نزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلا مارداً منكراً، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا
ص -21- نساءنا؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد أن اجتمعوا للصلاة، فاجتمعوا فصلى النبي عليه الصلاة والسلام ثم قام فقال: أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته لا يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن ألا إني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، و لا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم".
ثم قال البيهقي: باب بيان بطلان ما يحتج به بعض من رد الأخبار من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن. قال الشافعي: احتجَّ على بعض من رد الأخبار بما رُوي أن النبي عليه الصلاة و السلام قال: "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته و ما خالفه فلم أقله". فقلت له. ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء.
قال البيهقي: أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة عن أبى جعفر: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال: "إن الحديث
ص -22- سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني" قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي، فالحديث منقطع. وقال الشافعي وليس يخالف الحديث القرآن، و لكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يـبين معنى ما أراد خاصا وعاما: وناسخا ومنسوخا ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل.
قال البيهقي: وقد رُوي الحديث من أوجه أُخر كلها ضعيفة، ثم أخرج من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن الأصبع بن محمد بن أبي منصور أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحديث على ثلاث: فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله فاقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون في القرآن موضعه ولا تعرفون موضعه فلا تقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني تقشعر منه جلودكم وتشمئز منه قلوبكم وتجدون في القرآن خلافه فردوه" قال البيهقي: وهذه رواية منقطعة عن رجل مجهول.
ثم أخرج بسنده من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها تكون بعدي رواة يروون عني الحديث فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فحدثوا به
ص -23- و ما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به". قال البيهقي: قال الدارقطني: هذا وهم و الصواب عن عاصم عن زيد بن علي منقطعا1، قال بسنده من طريق بشر بن.نمير عن حسين بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته، ومن حدثكم حديثا لا يضارع القرآن فلم أقله" قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف لا يحتج بمثله، حسين بن عبد الله بن ضميرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وبشر بن.نمير ليس بثقة. ثم أخرج بسنده من طريق صالح بن موسى عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيأتيكم مني أحاديث مختلفة فما أتاكم موافقا لكتاب الله وسنتي فهو مني، وما أتاكم مخالفاً لكتاب الله وسنتي فليس مني" قال البيهقي: تفرد به صالح بن موسى الطلحي وهو ضعيف لا يحتج بحديثه، قلت: ومع ذلك فالحديث لنا لا علينا، ألا ترى إلى قوله: "موافقا لكتاب الله وسنتي".
ثم أخرج البيهقي من طريق يحيى بن آدم عن ابن. أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة الدارقطني في سننه هكذا: "هذا وهم ،والصواب عن عاصم عن زيد عن علي بن الحسين مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ"
ص -24- قال: "إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه قلته أو لم أقله فصدِّقوا به فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدّقوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف". قال البيهقي: قال ابن خزيمة: "في صحة هذا الحديث مقال لم نر في شرق الأرض ولا غربها أحداً يعرف خبر ابن أبي ذئب من غير رواية يحيى بن آدم ولا رأيت أحداً من علماء الحديث يثبت هذا عن أبي هريرة". قال البيهقي: و هو مختلف على يحيى بن آدم في إسناده و متنه اختلافا كثيراً يوجب الاضطراب ، منهم من يذكر أبا هريرة، ومنهم من لا يذكره ويرسل الحديث. ومنهم من يقول في متنه: "إذا رويتم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله"، وقال البخاري في تاريخه: "ذِكرُ أبي هريرة فيه وهم". ثم أخرج البيهقي من طريق الحارث بن نبهان عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بلغكم عني من حديث حسن لم أقله فأنا قلته". قال البيهقي: هذا باطل، والحارث والعرزمي متروكان، و عبد الله بن سعيد عن أبي هريرة مرسل فاحش، قال: وقد روى عن أبي هريرة ما يضاد بعض هذا.
ثم أخرج من طريق أبي معشر السندي عن سعيد
ص -25- المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحداً متكئاً على أريكته يأتيه الحديث من حديثي فيقول: اتل عليَّ قرآناً، ما أتاكم من خير عني قلته أو لم أقله فأنا أقوله، و ما أتاكم عني من شر فإني لا أقول الشر"، قال البيهقي: صدرُ هذا الحديث موافق للأحاديث الصحيحة في قبول الأخبار، وقوله: "قلته أو لم أقله" في هذه الأحاديث مالا يليق بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشبه المقبول.
ثم أخرج من طريق عبد الرحمن بن سلمان بن عمرو مولى المطلب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر وليس مني"، قال البيهقي: وهذا منقطع، قال: وأمثلُ إسناد رُوي في هذا المعنى ما رواه ربيعة عن عبد الملك بن سعيد بن سويد عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أَوْلاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه". ثم أخرج من طريق بكير عن عبد الملك بن سعيد عن ابن عباس بن سهل عن أُبي قال: "إذا بلغكم عن رسول
ص -26- الله صلى الله عليه وسلم ما يُعرف وتلين له الجلود فقد يقول النبي صلى الله عليه وسلم الخير ولا يقول إلا الخير" قال البيهقي: قال البخاري: وهذا أصح- يعني أصح من رواية من رواه عن أبي حميد أو أبي أسيد- وقد رواه ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن عبد الملك بن سعيد عن القاسم بن سهيل عن أبي بن كعب قال ذلك بمعناه فصار الحديث المسند معلولا، وعلى الأحوال كلها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه قريب من العقول موافق للأصول لا ينكره عقلُ من عقلَ عن الله الموضع الذي وضع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دينه وما افترض على الناس من طاعته، و لا ينفر منه قلب من اعتقد تصديقه فيما قال واتباعه فيما حكم به، وكما هو جميل حسن من حيث الشرع جميل في الأخلاق حسن عند أولي الألباب. هذا هو المراد مما عسى يصح من ألفاظ هذه الأخبار.
ثم أخرج بسنده عن ابن عباس قال: "إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجدوا تصديقه في الكتاب أو هو حسن في أخلاق الناس فأنا به كاذب"، و أخرج عن علي: "فإذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فظُنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنأ والذي هو أتقى". قلت: والمعوَّل عليه في معنى الحديث المورد أن تثبت ما أشار إليه الإمام الشافعي مما سبق أن السنة الثابتة ليست منافرة
ص -27- للقرآن بل معاضدة له، وإن لم يكن فيه نص صريح بلفظها فإن النبي صلى الله عليه وسلم يفهم من القرآن مالا يفهمه غيره، وقد قال لما سئل عن الحُمُر: "ما أنزل فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}" فانظر أخذ حكمها من أين؟ وقال ابن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم: "ما من شيء إلا بُين لنا في القرآن ولكن فهمنا يقصر عن إدراكه، فلذلك قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}" فانظر هذا الكلام من ابن مسعود أحد أجلاء الصحابة وأقدمهم إسلاما.
قال بعضهم: السنة شرح للقرآن، و قد ألف ابن برَّجان كتابا في معاضدة السنة للقرآن: أخرج الشافعي. والبيهقي من طريق طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، و لا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" قال الشافعي: وهذا منقطع، وكذلك صنع صلى الله عليه وسلم وبذلك أمر. وافترض عليه أن يتبع ما أوحي إليه و نشهد أن قد اتبعه وما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله في الوحي اتباع سنته، فمن قبل عنه فإنما قبل بفرض الله، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} قال البيهقي: وقوله "في كتابه" إن صحت هذه اللفظة فإنما أراد فيما أوحي إليه، ثم ما أوحي إليه نوعان: أحدهما وحي
ص -28- يتلى، والآخر وحي لا يتلى، وقد احتج ابن مسعود من الآية التي احتج بها الشافعي.بمثل ما احتج به في أن من قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكتاب الله قبله فإن حكمه في وجوب اتباعه حكم ما ورد به الكتاب، ثم أورد الحديث السابق فى لعن الواشمات.
ثم قال البيهقي: باب فيما ورد عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة من الرجوع إلى خبره، أخرج فيه عن قبيصة بن ذؤيب قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه لتسأله ميراثها. فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء و ما أعلم لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر. هل معك غيرك: فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال، فأنفذه لها أبو بكر".
و أخرج عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: "الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث1 امرأة أشْيَم الضبابي من ديته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في سنن أبي داود: "قال له الضحاك كتب إلي رسول الله أن أورث الخ" والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وصححه
ص -29- فرجع إليه عمر"، أخرجه أبو داود. و أخرج عن طاوس أن عمر قال: "أذكِّر الله امرءاً سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئاً فقام حمل بن مالك بن النابغة قال كنت بين جاريتين لي - يعني ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميتاً فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرّة، فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، إن كدنا نقضي فيه برأينا".
و قال البيهقي: قال الشافعي: قد رجع عمر عما كان يقضي فيه بحديث الضحّاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لقضى بغيره. وقال: إن كدنا نقضي فيه برأينا.
وأخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة: "أن عمر خرج إلى الشام فلما جاء سرغ1 بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، و إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا"، فرجع عمر من سرغ". قال ابن شهاب: وأخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن عمر إنما انصرف بالناس من حديث عبد الرحمن ابن عوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سرغ: بفتح الراء وسكونها: قرية بوادي تبوك من طريق الشام
ص -30- وأخرج البخاري عن عائشة قالت: "لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر".
وأخرج البيهقي عن زينب بنت كعب بن عجرة: "أن الفريعة بنت مالك بن سنان- وهي أخت أبي سعيد الخدري- أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبُد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به"، وأخرج عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدّقته، وأنه حدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد موقن يذنب ذنبا فيتطهر فيحسن الطهور ويستغفر الله إلا غفر له" أخرجه أحمد.
وأخرج الشيخان عن ابن عباس: "أن زيد بن ثابت
ص -31- قال له: أتفتي أن تصدُر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: أما لا، فسأل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت". قال الشافعي: فسمع زيد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أفتى ابن عباس بالصدر أنكره عليه فلما أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه حقاً أن يرجع عن خلاف ابن عباس1. وأخرج الشيخان عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: إن نوفلا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى بني إسرائيل، فقال: كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكر حديث موسى والخضر"، قال الشافعي: ابن عباس مع فقهه وورعه كذَّب امرأً من المسلمين ونسبه إلى عداوة الله لما أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلاف قوله. وأخرج البيهقي والحاكم عن هشام بن جبير قال: "كان طاوس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل. وعبارة الشافعي في الأم هكذا: قال الشافعي رحمه الله تعالى: فسمع زيد النهي ،أن لا يصدر أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت، وكانت الحائض عنده من الحاج الداخلين في ذلك النهي فلما أفتاها ابن عباس بالصدر إذا كانت قد زارت البيت بعد النحر أنكره عليه زيد، فلما أخبره ابن عباس عن المرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك فسألها فأخبرته فصدق المرأة، ورأى أن حقا عليه أن يرجع عن خلاف ابن عباس"اهـ
ص -32- يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس: اتركهما. فقال: ما أدعهما. فقال ابن عباس: فإنه قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر ولا أدري أتعذَّب أم تؤجَر؟ لأنَّ الله قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}" قال الشافعي: فرأى ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ودلَّه بتلاوة كتاب الله عز و جل على أن فرضاً عليه أن لا يكون له الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمراً. وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى زعم رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركناها من أجل ذلك". قال الشافعي: فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابرة ويراها حلالا ولم يتوسع إذ أخبره الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنها أن يخابر بعد خبره. وأخرج البيهقي عن عطاء بن يسار: "أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورِق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأساً، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها". قال الشافعي: فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، فلما لم ير معاوية ذلك فارق
ص -33- أبو الدرداء الأرض التي هو بها إعظاماً لأنه ترك خبر ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: وأُخبرنا أن أبا سعيد الخدري لقي رجلا فأخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فخالفه1 فقال أبو سعيد: "والله لا آواني وإياك سقف بيت أبدا". قال الشافعي: فرأى أن ضيّقاً على المخبر أن لا يقبل خبره.
وأخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا النساء بالليل من المساجد"، فقال بعض بني عبد الله ابن عمر: والله لا ندعهن يتخذنه دغلا2، فضرب ابن عمر صدره وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول ما تقول". و أخرج الشيخان عن عبد الله بن بريدة أن عبد الله بن مغفَّل رأى رجلا يخذف3 فنهاه، فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: "إنه لا يرد الصيد ولا ينكأ العدو، ولكنه قد يكلمة ممنوعةر السن ويفقأ العين" وقال: فرآه بعد ذلك يخذف فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تخذف والله لا أكلمك أبدا".
وأخرج الشيخان عن عمران بن حصين أنه قال، قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الرسالة: فذكر الرجل خبرا يخالفه.
2 هو في الأصل الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه.
3 الخذف: هو الرمي بالحصا الصغار بأطراف الأصابع، "اللسان".
ص -34- رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء خير كله" فقال بشير بن كعب: إنا نجد في بعض الكتاب أن منه سكينة ووقارا ومنه ضعفا، فغضب عمران بن حصين حتى احمرت عيناه وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه. وفي رواية: وتحدثني عن صحفك .
وأخرج البيهقي والحاكم عن الحسن قال: "بينما عمران بن الحصين يحدث عن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال له رجل: يا أبا نجيد حدثنا بالقرآن فقال له عمران أنت وأصحابك تقرؤون القرآن أكنت محدثي عن الصلاة وما فيها وحدودها، أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ ولكن قد شهدتُ وغبتَ أنت،ثم قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا،فقال الرجل: أحييتني أحياك الله،قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين".
قال الشافعي: ولا أعلم من الصحابة ولا التابعين أحدا أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبل خبره وانتهى إليه وأثبت ذلك سنة. ثم أخرج عن سالم بن عبدالله: "أن عمر بن الخطاب نهى عن الطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة، قال سالم: قالت عائشة: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق".
ص -35- قال الشافعي: فترك سالم قول جده عمر في إمامته، وعمل بخبر عائشة. وأعلمَ من حدثه أنه سنة وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق، و ذلك الذي يجب عليه. قال الشافعي: وضع ذلك الذين بعد التابعين، والذين لقيناهم كلهم يثبت الأخبار ويجعلها سنة يحمد من تبعها و يعاب من خالفها، فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة. انتهى.
هذا الذي سقته من أول الكتاب إلى هنا كله تحرير الإمام الشافعي رضي الله عنه كلاماً واستدلالا بالأحاديث ولقد أتقنه رضي الله عنه وأطنب فيه لداعية الحا