استقر الإسلام في المدينة، وأصبحت له مكانته بين القبائل العربية خاصة بعد انتصار معركة بدر، وعندما حاولت قريش أن تأخذ بثأرها في 'أحد' لم يتحقق لها الانتصار الكامل.
فلولا أن الرماة عصوا أوامر الرسول عندما طلب منهم ألا يغادروا أماكنهم إذا لاحت بوادر الانتصار.. إلا أنهم تركوا هذه الأماكن بحثا عن الغنائم، وانتهز خالد بن الوليد الذي كان مايزال علي الشرك هذه الفرصة فأحاط بالمسلمين وأوقع بهم خسائر كبيرة، ولكن قريشا خشيت أن تستمر في قتال الرسول خشية أن تنقلب المعركة في غير صالحها، فآثرت الانسحاب والعودة إلي مكة، فلم يكن انتصار مكة كاملا.
ومع ذلك فقد كانت المدينة تنعم بتسامح الإسلام ومبادئه وفضائله.. فساد العدل ولم يعد هناك هذا االصراع بين الأوس والخزرج والذي كان يذكيه اليهود.. ورغم أن هذا المجتمع كان ينعم بقيم الإسلام مما جعله مجتمعا متآلفا قويا.. رغم كل ذلك فقد كان هناك بعض المنافقين وعلي رأسهم، عبدالله بن أبي بن ابن سلول، الذي كان يحقد علي الرسول وعلي الإسلام، وأعلن إسلامه نفاقا، لأنه كان قد أوشك أن يصبح ملكا علي يثرب، ولكن أمله خاب بعد هجرة الرسول إلي المدينة، والتفاف الناس حوله وحول دعوته، مما أثار حقده علي الإسلام وبني الإسلام.
وحدث في شهر شعبان في السنة الخامسة من الهجرة أن تناهي إلي سمع الرسول صلي الله عليه وسلم أن (الحارث بن أبي ضرار).. سيد بني المصطلق.. وهم بطن من خزاعة.. وكانوا قد ساعدوا مكة في قتالها الرسول في (أحد) سمع النبي أن الحارث هذا يريد أن يهاجم المدينة فخرج النبي لملاقاته.. وطلب منهم الإسلام، ولكنهم رفضوا، فهزمهم المسلمون هزيمة منكرة، وأخذوهم أسري.. وكان من بين الأسري (جويرية بنت الحارث) التي استغاثت بالرسول، فتزوجها عليه الصلاة والسلام، وبالتالي أصبح هذا البطن من خزاعة أصهارا للرسول، فأسلموا.
وفي هذه الغزوة تخاصم أجير لعمر بن الخطاب مع رجل حليف للخزج علي الماء.. فقد تنافس كل منهما علي أن يكون هو الأسبق إلي الماء، وضرب حليف الأجير حليف الخزرج الذي استنجد بالخزرجيين.. وكادت تكون فتنة، عندما استنجد أجير عمر بالمهاجرين.. ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم أخمد الفتنة في مهدها.. وعادت النفوس إلي التآخي والصفاء..ولكن عبدالله بن أبي سلول الذي كان من آماله أن تندلع الفتنة بين المهاجرين والأنصار، وحتي يشفي غليل نفسه، وأخذ يثير الناس.. فكان مما قاله للناس وهو يبغي اندلاع الفتنة: والله ما رأيت كالليلة مذٌلة، قد نافرنا القوم وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا فضلنا. والله ما نحن وهؤلاء إلا كما قال القائل: 'مسَمٌِن طلبك بأكلك!! ولئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعزّج منها الأذلَّ!
وقال لقومه:
هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم في بلادكم، وأنزلتموهم منازلكم. آسيتموهم في أموالكم حتي استغنوا.
أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلي غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم حتي جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا! فَقجيتم دونهم، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا.. فلا تنفقوا علي من حوله حتي ينفضوا!'.
وسمع أحد غلمان الأنصار وهو (زيد بن الأرقم) قول هذا المنافق، فأخبر الرسول بذلك.
وغضب الرسول من هذا المنافق الذي يريد أن يشعل الفتنة بين المسلمين، ويدعو من جديد إلي العنصرية، فقال عمر بن الخطاب: 'يا رسول الله مجرْ به عَبٌاد بن بشر فليقتله وليأتك برأسه'!
فقال عليه الصلاة والسلام:
لا.. فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل.
وأمر الرسول أصحابه بالرحيل رغم شدة الحر، حتي تنتهي هذه الفتنة.
والعجيب أن (ابن أبي) عندما علم أن الرسول قد علم بأمر ما كان يضمره من إحداث فتنة، ذهب إلي النبي صلي الله عليه وسلم، وأنكر أنه تحدث بشيء مما سمع!
ولكن الرسول صمت ولم يجبه
ومضي يسير متجها نحو المدينة
ونزل علي الرسول قوله تعالي في شأن المنافقين: (إذٌا جٌاءٌكٌ َمينٌافقيونٌ قٌاليوا نٌشهٌدي إنٌَكٌ لٌرٌسيولي َلٌَه واللٌَهي يٌعلٌمي إنٌَكٌ لٌرٌسيوليهي واللٌَهي يٌشهٌدي إنٌَ َمينٌافقينٌ لٌكٌاذبيونٌ اتٌَخٌذيوا أٌيمٌانٌهيم جينٌَةْ فٌصٌدَيوا عٌن سٌبيل َلٌَه إنٌَهيم سٌاءٌ مٌا كٌانيوا يٌعمٌليونٌ). (المنافقون 1، 2)
وقال تعالي: (هيمي الذينٌ يٌقيوليونٌ لا تينفقيوا عٌلٌي مٌن عندٌ رٌسيول َلٌَه حٌتٌَي يٌنفٌضَيوا وللٌَه خٌزٌائني َسٌَمٌوٌات والأٌرض ولٌكنٌَ َمينٌافقينٌ لا يٌفقٌهيونٌ يٌقيوليونٌ لٌئن رٌَجٌعنٌا إلٌي َمٌدينٌة لٌييخرجٌنٌَ الأٌعٌزَي منهٌا الأٌذٌلٌَ وللٌَه العزٌَةي ولرٌسيوله وللميؤمنينٌ ولٌكنٌَ المننٌافقينٌ لا يٌعلٌميونٌ) . (المنافقون
*****
وقد استغل 'عبدالله بن أبي' ما حدث لأم المؤمنين عائشة ليبث سمومه، محاولا زرع الفتنة بين المسلمين.. فقد حدث أن أسرع النبي مع أصحابه إلي المدينة، وكانت عائشة رضي الله عنها معه في هذه الغزوة.. وكانت قد تخلفت عن ركب رسول الله حي انفرط عقدها، وأخذت في جمعه.. بينما ظن المسلمون أنها في هودجها.. فساروا بالهودج علي ظن أن أم المؤمنين عائشة به.. وعندما وجدت السيدة عائشة نفسها وحيدة لم ترتجف أو تخاف، فقد أيقنت أن الرسول سوف يرسل إليها من يعيدها إلي المدينة، فظلت في مكانها.. وأثناء ذلك رآها (صفوان بن المعطل السَّلَمي).. الذي تخلف هو الآخر عن الآخرين.. بعض الوقت.. وعندما رآها عرفها، وأركبها بعيره وانطلق بها إلي المدينة التي دخلها في وضح النهار.
ولم يكن في هذه القصة شيء يستحق أن يجثار حوله الشبهات، إلا أن عبدالله بن أبي، اتخذ من هذا الحادث وسيلة لأن ينفث سمومه، ويشيع ما لا ينبغي، ويقول عن أم المؤمنين مالا يجب أن يقال.. وبدأ يتحدث عن سبب عودتها مع صفوان الشاب الوسيم، وردد كلماته حمنه بنت جحش أخت زينب زوجة الرسول، لأنها كانت تعرف منزلة عائشة في قلب رسول الله.. كما فعل ذلك حسان بن ثابت.. وبدأت سهام عبدالله بن أبي تنتشر حتي وصلت الأخبار إلي الرسول، فحزن حزنا شديدا، ولم تكن عائشة تعرف عما يدور عنها شئ، ومرضت عائشة ولكن لاحظت أن هناك جفاء من قِبَل الرسول، فلم يلاطفها كما كان يلاطفها وهي الزوجة الأثيرة إلي نفسه، مما جعلها تطلب من الرسول أن تذهب عند أمها لترعاها في مرضها، وظلت في مرضها أكثر من عشرين يوما، إلي أن عرفت عندما شفيت ما يجقال عنها، فحزنت حزنا شديدا، وحزن الرسول لأن ألسنة بعض المنافقين لم تتورع في الخوض في حديث الإفك، حتي أنه خطب الناس وقال لهم:
'أيها الناس:
ما بال رجال يأذونني في أهلي ويقولون عني غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرا..
ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي'
وعندما سمع أسيد بن حضير ما قاله الرسول قال:
يا رسول الله أن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فوالله أنهم لأهل أن نضرب أعناقهم.
وكان سعد بن عبادة حاضرا فرد علي أسيد أنه قال ذلك لأنهم من الخزرج!
وكادت تحدث فتنة لولا أن احتواها الرسول بحكمته.
وعتبت عائشة علي أمها بأنها لم تخبرها بما تلوكه ألسنة البعض عنها.
وأخذت تفكر في الأمر.. وألمها أن يشك فيها أحد، وعندما ذهب الرسول إلي بيت أبي بكر ومعه عليا وأسامة بن زيد وسألهما الرأي.. فنفي أسامة أن تكون عائشة قد فعلت ما يشينها.. وأنها بريئة مما نجسب إليها.. بينما تكلم عليٌ فقال: يا رسول الله إن النساء كثير.. وضرب جارية لعائشة، عندما طلب منها أن تصدق رسول الله، وكان جوابها:
والله ما أعلم إلا خيرا.
وقال لها الرسول:
'يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله إن كنت قد قارفت سوءا مما يقولون، فتوبي إلي الله فإن الله يقبل التوبة من عباده'.
فقالت للنبي وهي باكية:
'والله لا أتوب إلي الله مما ذكرت أبدا، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني بريئة لأقولن ما لم يكن.
ولئن أنا أنكرت لا تصدقوني.
وصمتت برهة وقالت:
أنا أقول كما قال أبويوسف: فصبر جميل والله المستعان علي ما تصفون'.
ونزل الوحي ببرائة عائشة: (إنٌَ ٌََذينٌ جٌاءيوا بالإفك عيصبٌةِ مَنكيم لا تٌحسٌبيوهي شٌرَْا لٌَكم بٌل هيوٌ خٌيرِ لٌَكيم لكيلَ امرئج مَنهيم مٌَا اكتٌسٌبٌ منٌ الإثم والٌَذي تٌوٌلٌَي كبرٌهي منهيم لٌهي عٌذٌابِ عٌظيمِ) (النور: آية 11 وما بعدها)
إلي قوله تعالي: (ٌلٌولا إذ سٌمعتيميوهي قيلتيم مٌَا يٌكيوني لٌنٌا أٌن نٌَتٌكٌلٌَمٌ بهٌذٌا سيبحٌانٌكٌ هٌذٌا بيهتٌانِ عٌظيمِ (16( يٌعظيكيمي َلٌَهي أٌن تٌعيوديوا لمثله أٌبٌدْا إن كينتيم مَيؤمنينٌ (17) وييبٌيَني َلٌَهي لٌكيمي الآيٌات واللٌَهي عٌليمِ حٌكيمِ (18) إنٌَ ٌََذينٌ ييحبَيونٌ أٌن تٌشيعٌ َفٌاحشٌةي في ٌََذينٌ آمٌنيوا لٌهيم عٌذٌابِ أٌليمِ في َدَينيٌا ¤ٌالآخرٌة ¤ٌاللٌَهي يٌعلٌمي ¤ٌأٌنتيم لا تٌعلٌميونٌ)
ونزلت عقوبة رمي المحصنات:
(الٌَذينٌ يٌرميونٌ َميحصٌنٌات ثيمٌَ لٌم يٌأتيوا بأٌربٌعٌة شيهٌدٌاءٌ فٌاجلديوهيم ثٌمٌانينٌ جٌلدٌةْ ولا تٌقبٌليوا لٌهيم شٌهٌادٌةْ أٌبٌدْا وأيولٌئكٌ هيمي َفٌاسقيونٌ) (النور 4)
وقد طبقت هذه العقوبة علي من رددوا حديث الإفك وهم مسطح بن أثافة، وحسان بن ثابت، وحمنه بنت جحش. فقد ضجرب كل منهم ثمانون جلدة.
ومع الأيام عفا الرسول عن شاعره حسان كما طلب من الصديق معاملة مسطح كما كان يعامله قبل حديث الإفك.
والدارس لأحداث (حديث الإفك) يعرف كيف صبر الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذا الصبر، وما تحملته السيدة عائشة بما يفوق طاقة البشر.
وقد طاق عبدالله الابن من ابيه ابن أبي ذرعا وبمكائده، حتي أنه ذهب إلي رسول الله قائلا له:
يا رسول الله.. انه بلغني أنك تريد قتل (عبدالله بن أبي) فيما بلغك عنه، وقلت من يعذرني في رجل أذاني في أهلي.
فإن كنت لابد فاعلا فمرني به، فأنا أحمل لك رأسه!
فوالله ما علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالدي مني.
وإني لأخشي أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلي قاتل أبي يمشي في الناس فاقتله. فاقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار'
فقال عليه الصلاة والسلام:
بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
وقال الرسول لعمر:
كيف تري الآن يا عمر؟
أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنجف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته!
فقال عمر:
قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
و... انتهت هذه الفتنة
وعادت عائشة كما كانت أقرب النساء إلي قلب زوجها.. الرسول الأعظم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.
بقي أن نعرف أن حسان بن ثابت حاول أن ينفي عن نفسه خوضه في حديث الإفك.. وقال مادحا السيدة عائشة في قصيدة يقول فيها:
مهذبة قد طيب خيمها
وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وهو القائل مدافعا عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.. ويهجو من يتعرض له بسوء.. ومن ذلك قوله موجها حديثه لأبي سفيان..
هجوت محمدا فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
ولكثرة دفاعه عن الإسلام ونبي الإسلام.. كان بحق هو شاعر الرسول