في الأجوبة عما احتج به من جعل عقوبة هذه الفاحشة دون عقوبة الزنى .
أما قولهم : إنها معصية لم يجعل الله فيه حدا معينا ، فجوابه من وجوه :
أحدها : أن المبلغ عن الله جعل حد صاحبها القتل حتما ، وما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما شرعه عن الله ، فإن أردتم أن حدها غير معلوم بالشرع فهو باطل ، وإن أردتم أنه غير ثابت بنص الكتاب لم يلزم من ذلك انتفاء حكمه لثبوته بالسنة .
الثاني : أن هذا ينتقض عليكم بالرجم ، فإنه إنما ثبت بالسنة .
فإن قلتم : بل ثبت بقرآن نسخ لفظه وبقي حكمه .
قلنا : فينقض عليكم بحد شارب الخمر .
الثالث : أن نفي دليل معين لا يستلزم نفي مطلق الدليل ولا نفي المدلول ، فكيف وقد قدمنا أن الدليل الذي نفيتموه غير منتف ؟
وأما قولكم : إنه وطء لا تشتهيه الطباع ، بل ركب الله الطباع على النفرة منه ، فهو كوطء الميتة والبهيمة ، فجوابه من وجوه :
أحدها : أنه قياس فاسد الاعتبار ، مردود بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة كما تقدم بيانه .
الثاني : أن قياس وطء الأمرد الجميل الذي فتنته تربو على كل فتنة ، على وطء أتان أو امرأة ميتة من أفسد القياس ، وهل يعدل ذلك أحد قط بأتان أو بقرة أو ميتة ، أو سبى ذلك عقل عاشق ، أو أسر قلبه ، أو استولى على فكره ونفسه ؟ فليس في القياس أفسد من هذا .
الثالث : أن هذا منتقض بوطء الأم والبنت والأخت ، فإن النفرة الطبيعية عنه حاصلة مع أن الحد فيه من أغلظ الحدود - في أحد القولين - وهو القتل بكل حال محصنا كان أو غير [ ص: 175 ] محصن ، وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو قول إسحاق بن راهويه وجماعة من أهل الحديث .
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال لقيت عمي ومعه الراية ، فقلت : إلى أين تريد ؟ قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله .
قال الترمذي : هذا حديث صحيح ، قال الجوزجاني : عم البراء اسمه الحارث بن عمرو .
في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من وقع على ذات محرم فاقتلوه .
ورفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها ، فقال : احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألوا عبد الله بن مطرف ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من تخطى حرم المؤمنين ، فخطوا وسطه بالسيف .
وفيه دليل على القتل بالتوسيط ، وهذا دليل مستقل في المسألة ، وأن من لا يباح وطؤه بحال فحد وطئه القتل ، دليله : من وقع على أمه أو ابنته ، وكذلك يقال في وطء ذوات المحارم ، ووطء من لا يباح وطؤه بحال ، فكان حده القتل كاللوطي .
والتحقيق : أن يستدل على المسألتين بالنص ، والقياس يشهد لصحة كل منهما ، وقد اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرمه فعليه الحد ، وإنما اختلفوا في صفة الحد ، هل هو القتل بكل حال ، أو حده حد الزاني ، على قولين :
فذهب الشافعي ومالك وأحمد - في إحدى روايتيه - : أن حده حد الزاني .
وذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث إلى : أن حده القتل بكل حال .
وكذلك اتفقوا كلهم على أنه لو أصابها باسم النكاح عالما بالتحريم أنه يحد ، إلا أبا حنيفة وحده ، فإنه رأى ذلك شبهة مسقطة للحد .
ومنازعوه يقولون : إذا أصابها باسم النكاح فقد زاد الجريمة غلظا وشدة ، فإنه ارتكب محذورين عظيمين : محذور العقد ، ومحذور الوطء ، فكيف تخفف عنه العقوبة بضم محذور الزنى ؟
وأما وطء الميتة ففيه قولان للفقهاء ، وهما في مذهب أحمد وغيره .
[ ص: 176 ] أحدهما : أنه يجب به الحد ، وهو قول الأوزاعي ، فإن فعله أعظم جرما وأكبر ذنبا انضم إلى فاحشته هتك حرمة الميتة .