وقت الغسل :
اختلف العلماء في وقت الغسل للجمعة و تعلقه بالذهاب إليها علي ثلاثة أقوال :
الأول : اشتراط الاتصال بين الغسل و الرواح . و إليه ذهب مالك و وافقه الأوزاعي و الليث .
لحديث : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " و في لفظ مسلم : " إذا أراد أحدكم أن يأتي
الجمعة فليغتسل " .
الثاني : عدم اشتراط ذلك ، و يجزئ من بعد الفجر لكن لا يجزئ فعله بعد صلاة الجمعة ، و
يستحب تأخيره إلي الذهاب و إلي هذا ذهب الجمهور .
الثالث : أنه لا يشترط تقدم الغسل على صلاة الجمعة ، فلو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه ، و إليه
ذهب داود و نصره ابن حزم ، و حجتها تعلق الغسل باليوم في الأحاديث لا بالصلاة .
و قد أنكر هذا القول ابن دقيق العيد و قال : يكاد يجزم ببطلانه ، و حكى ابن عبد البر الإجماع
علي أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة (3).
فائدة :
قال النووي : " قال أصحابنا : و وقت جواز غسل الجمعة من طلوع الفجر إلي أن يدخل
في الصلاة … قالوا : و لا يجوز قبل الفجر . و انفرد إمام الحرمين بحكاية وجه أنه يجوز قبل
طلوع الفجر ، كغسل العيد علي اصح القولين . و الصواب المشهور أنه لا يجزئ قبل الفجر ،
و يخالف العيد ، فإنه يُصلى في أول النهار ، فيبقى أثر الغسل ، لأن الحاجة تدعو إلى تقديم غسل العيد ، لكون صلاته أول النهار ، فلو لم يجز قبل الفجر ضاق الوقت و تأخر التبكير إلى الصلاة " (1).
قال الشوكاني : و الظاهر ما ذهب إليه مالك . لأن مجمل الأحاديث التي أطلق فيها : اليوم علي حديث الباب(1) المقيد بساعة من ساعاته واجب ، و المراد بالجمعة اسم سبب الاجتماع و هو الصلاة لا اسم اليوم(2) .
قال الحافظ : و مقتضى النظر أن يقال : إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة و التنظف رعاية الحاضرين من التأذى بالرائحة الكريهة ، فمن خشي أن يصيبن في أثناء النهار ما يزيل تنظفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه ، و لعل هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن مما يغاير التنظف و الله أعلم (3).
مسألة هل يشرع الغسل لمن لم يحضر الجمعة :
قال الحافظ : و استدل من مفهوم الحديث (4)على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة ، و قد تقدم التصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع . و هذا هو الأصح عند الشافعية ، و به قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفية (5).
و يدل لقول الجمهور ما أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً : " من أتى الجمعة من الرجال و النساء فليغتسل ، و من لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال و النساء " قال النووي : رواه البيهقي بهذا اللفظ بإسناد صحيح(*) .
مسألة : هل يجزئ غسل الجنابة لمن حصلت له عن غسل الجمعة ؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول : أن غسل الجنابة يجزئ عن غسل الجمعة و إن لم ينوه ، و أن الغسل حيث وقع في الجمعة قبل الصلاة كفى، أياً كان سببه . و هذا قول جمهور العلماء . قال ابن المنذر : حفظنا الإجزاء عن أكثر أهل العلم من الصحابة و التابعين (6).
قال الحافظ في شرح قوله صلى الله عليه و سلم : " اغتسلوا يوم الجمعة و إن لم تكونوا جنباً "
قال : " معناه : اغتسلوا يوم الجمعة إن كنتم جنباً للجنابة ، و إن لم تكونوا جنباً للجمعة " و أخذ منه أن الاغتسال يوم الجمعة للجنابة يجزئ عن الجمعة سواء نواه للجمعة أم لا ، و في الاستدلال به علي ذلك بعد (1).
الثاني : أنه لا يجزئ و لابد ليوم الجمعة من غسل مخصوص ، و هذا قول ابن حزم و جماعة .
قال ابن حزم : " برهان ذلك قول الله تعالى ( و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) . و قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إنما الأعمال بالنيات ، و لكل امرئ ما نوى " .
فيصح يقيناً أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال ، فإذا قد صح ذلك ، فمن الباطل أن يجزئ عمل عن عملين أو أكثر … " (2).
و حكى ابن حزم هذا القول عن جماعة من السلف منهم جابر بن زيد و الحسن و قتادة و إبراهيم النخعي و الحكم و طاءوس و عطاء و عمرو بن شعيب و الزهري و ميمون بن مهران .
و قد نقل الحافظ عن أبي قتادة أنه قال لابنه و قد رآه يغتسل يوم الجمعة : " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة " . أخرجه الطحاوي و ابن المنذر و غيرهما (3).
القول الثالث : أنه لا يجزئ عنه إلا بالنية ، أي إذا نوى الكل . قال النووي : " و أما إذا وجب عليه يوم الجمعة غسل جنابة فنوى الغسل عن الجنابة و الجمعة معاً فالمذهب صحة غسله لهما جميعاً و به قطع المصنف و الجمهور …. " (**).
و احتج أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه و سلم : " إنما الأعمال بالنيات ، و إنما لكل امرئ ما نوى ".
قال النووي في شرح المهذب : " .. و لو نوى الغسل للجنابة حصل بلا خلاف ، و في حصول غسل الجمعة قولان : أصحهما عند المصنف في التنبيه و الأكثر ين : لا يحصل ، لأن الأعمال بالنيات ، و لم ينوه . و أصحهما عند البغوي حصوله ، و المختار أنه لا يحصل " (***).
و حمل الحافظ كلام أبي قتادة لابنه علي ذلك ، حيث قال في شرح قوله صلى الله عليه و سلم : " غسل يوم الجمعة " ، قال : " … و استنبط منه أيضاً أن ليوم الجمعة غسلاً مخصصاً حتى لو وجدت صورة الغسل فيه لم يجز عن غسل الجمعة إلا بالنية ، و قد أخذ بذلك أبو قتادة فقال لابنه و قد رآه يغتسل يوم الجمعة : " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة " (4).
قال المنبر: لكن هناك وجه آخر يمكن أن يحمل عليه كلام أبي قتادة غير الإجزاء و عدمه ، ألا و هو تحصيل فضيلة مخصوصة لمن يقصد إلى غسل الجمعة و ينويه كما جاء عند ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و غيرهم عن عبد الله بن أبي قتادة قال : دخل علي أبي و أنا أغتسل يوم الجمعة ، فقال : غسلك هذا من جنابة أو للجمعة ؟ قلت : من جنابة . قال : أعد غسلاً آخر ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلي الجمعة الأخرى " (1).
فائدة :
قال الحافظ في الفتح : " حكى ابن العربي و غيره أن بعض أصحابهم قالوا : يجزئ عن الاغتسال للجمعة التطيب ، لأن المقصود النظافة .
و قال بعضهم : لا يشترط له الماء المطلق بل يجزئ بماء الورد و نحوه .
و قد عاب ابن العربي ذلك و قال : هؤلاء وقفوا مع المعنى ، و أغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين ، و الجمع بين التعبد و المعنى أولى . انتهى .
و عكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم (*)، فإنه تعبد دون نظر المعنى .
أما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود ، لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها فيحتاج إلى النية ، و لو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك ، و الله أعلم " . أ ﻫ (2).
و نقل ابن عثيمين عن شيخ الإسلام قوله : " جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها ، فإنه لا يتيمم عنها ، لأن التيمم إنما شرع للحدث . و معلوم أن الأغسال المستحبة ليست للتطهير ، لأنه ليس هناك حدث حتى يتطهر منه (****).